فصل: فصل: فيما على المكري والمكتري من الآلات في تحصيل الأغراض التي قدمنا ذكرها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: فيما على المكري والمكتري من الآلات في تحصيل الأغراض التي قدمنا ذكرها:

5209- فإن كانت الإجارة واردةً على العين، وكانت مطلقة، فالإكافُ والحزامُ والبرذعة والخِشاش، أو البُرَةُ، والخطامُ في البعير، كل ذلك على المكري إذا جرت الإجارةُ مطلقةً واردةً على عين الدابة، والمعوّل فيما ذكرناه على العرف الغالب؛ فإن مطرد العرف يقضي بكون هذه الآلات على المكري.
واختلف أصحابنا في السرج والدابةُ معينة للركوب، فمنهم من قال: يأتي به المكري قياساً على الإكاف، ومنهم من قال: يأتي به المستأجر، بخلاف الإكاف.
والتعويلُ في ذلك على العادة، وأنها في السرج تجري على خلاف حكمها في الإكاف، والمتبع في الخلاف والوفاق العرفُ، كما سنصفه، إن شاء الله تعالى.
5210- وأما الظروف التي فيها نقل الحُمولة، فإن كانت الإجارة واردةً على عين الدابة، فهي على المكتري، وليس على مُكري الدابة إلا تسليمُها، مع الإكاف، وغيره، مما وصفناه.
وإن كانت الإجارة واردةً على الذمة في نقل الحُمولة، فقال الملتزم: التزمتُ نقلَ متاعك إلى موضع كذا، فالظرف على المكري الملتزم؛ فإنه إذا التزم النقلَ مطلقاً، فقد التزم التسبب إلى تحصيل الآلات التي يقع النقلُ بها.
5211- وإن كان الاكتراء للاستسقاء، فقد قال القاضي: إن كان الرجل معروفاً بالاستقاء بجمل نفسه، ودَلْو نفسه، فمطلق التزام الاستقاء يلزمه الإتيان بالدَّلو والرِّشا. وإن لم يكن المكري معروفاً باعتياد ذلك، فليس عليه إلا الإتيانُ بدابةٍ صالحةٍ للاستقاء.
ويتجه عندنا في ذلك ضربٌ من التفصيل، فنقول: إن لم يقع التعرض للدابة، وإنما اعتمد العقدُ الالتزامَ المطلق في تحصيل الغرض، فالظرفُ، والدَّلو، والرّشا، وما عداها من الآلات، التي تمس الحاجةُ إليها- على المكري الملتزم.
وإن وقع التعرضُ للدابة ووصفها، فالأمر يختلف وراء ذلك بالعادة، فإن اطّردت عادةُ الناحيةِ بأن يأتي الملتزم بالآلات، فعليه الإتيان بها، وهي تنزل منزلة الإكاف، وما في معناه، وإن جرت العادة بأن المكتري يأتي بالظروف والآلات، فليس على المكري الإتيان بها.
5212- وإن اضطربت العادات، والإجارةُ واردةٌ على الذمة، وقد وقع التعرض
للدابة وصفتها، فالمسألة محتملة: يجوز أن يقال: على المكتري الظروفُ والآلات؛ فإن الاعتماد على الدابة والإتيان بها، ويجوز أن يقال: إنها على الملتزم المكري، فإنه التزم النقلَ، فأشعر التزامُه بالتزام الأسباب التي لابد منها في النقل.
ثم يتصل بهذا المنتهى أن العادة إذا اضطربت، ورأينا اتباع العادة، فهل يبطل العقدُ لاضطراب العادة، حتى يقال: لابد من التقييد، حتى لا يقعَ العقدُ في مضطرب العادة؟ أم لا حاجةَ إلى ذلك، ويرجع إلى صيغة اللفظ ومقتضاها؟ فيه خلاف قدمته.
ولا خلاف بعد تقدير ذلك أنه لو خصص العقد بالدابة، ونفى التزام الإتيان بالآلات فينعقد العقد على حسب ذلك، حتى قال الأصحاب: ولو قال: أكريتك هذه الدابةَ العاريةَ، بلا إكافٍ وحزام وبرذعة، فالإجارة تنعقد على هذا الوجه، وينقطع اتباع العادة.
5213- ولا خلاف أن المكتري إذا كان يركب المَحْمِل، فعليه الإتيان بالمَحْمِل، والمظلة والغطاء، وما يفرش في المحمل والحبل الذي يُشدّ به أحدُ المحملين إلى الآخر، والذي يشد به المحمل على الدابة. هذه الأشياء بجملتها، يأتي بها المكتري، إلا أن يشترطها على المكري.
5214- وإن مست الحاجةُ إلى سائقٍ يسوق، وإلى هادٍ دالٍّ يدل، فإن كانت الإجارة واردةً على العين، فليس على المكري إلا تسليم الدابة.
وإن كانت الإجارةُ واردةً على الذمة، فالتفصيل في أجرة السائق والهادي، كالتفصيل في الإتيان بالظرف، وقد بينا ذلك.
فصل:
5215- قد ذكرنا في قاعدة المذهب أن المَحْمِل لابد وأن يكون معلوماً للمكري، وأوضحنا طريقَ الإعلام فيه، ونحن نذكر الآن تفصيلَ القول في المعاليق التي يُعلّقها المكري كالسفرة، والقُمقُمة، والمِطهرة، ونحوها.
5216- فأول ما نذكره فيها أنها إن أُعلمت وصفاً، أو تعييناً، فلا كلام، وإن أُطلقت، قال الشافعي: القياس أن إطلاقها فاسدٌ مفسد؛ فإنه لا بيان فيها، ولا ثبت يُرجَع إليه، وهي مذكورة في العقد على الجهالة. قال: ومن الناس من يقول: يصح العقد، والرجوع إلى ما يراه الناس وسطاً مقتصداً.
هذا كلام الشافعي.
5217- واختلف أصحابنا، فمنهم من قال: هذا الذي ذكره الشافعي ترديدُ قولٍ منه، ففي المسألة قولان: أظهرهما- أن العقد لا يصح للجهل، كما قررناه.
والثاني: أن العقد يصحّ، ويحمل الأمرُ على ما يراه أهل العرف قريباً مقتصداً في المعاليق.
ومن أئمتنا من قال: لا يصح العقد قولاً واحداً؛ لما قدمناه من ظهور الجهالة، فالمذهب الآخر حكاه الشافعي عن بعضِ الناس، فلا يُلحق بمذهبه.
5218- وفي بعض التصانيف أن المَحْمِل إذا أطلق، ولم يقرن ببيانٍ من طريق الوصف، ولا من طريق العيان، فهو كالمعاليق حتى يُخرَّجَ فيها الطريقان. وهذا غلطٌ لا تعويل عليه، لم أره إلا في هذا التصنيف، وليس المَحْمِل كالمعاليق؛ فإنه من الأمور المقصودة، ولا يعد من التوابع في الإجارة، فإبهامه كإبهام الحُمولة.
5219- وإذا أجرينا القولين في المعاليق، وهي الطريقة المشهورة، ثم فرّعنا عليها، وقلنا بصحة العقد، وتنزيل المعاليق على المعتاد، فلو لم يذكر المعاليقَ أصلاً، فعلى هذا القول وجهان:
أحدهما: أن المكتري لا يحمل المعاليق؛ فإنه لم يجر لها ذكر. ومن الناس من لا معاليق له.
ومنهم من قال: يقبل من المكتري المعاليق، ويحمل على قضية الاعتياد، كما ذكرناه.
5220- ومما يتصل بما نحن فيه، أن من اكترى دابة ليحمّلها حُمولة تستقلّ الدابة بها فحسب، ولا يتأتى ركوبها، فلا معاليق في مثل ذلك، وإنما المعاليق للدابة التي يركبها المكتري. وهذا بيّن متفق عليه.
ولا شك أن المعاليق تختلف باختلاف المركوب، فمعاليق الحمار دون معاليق البعير.
5221- وألحق أئمتنا السُّفرةَ بالمعاليق. فأما حمل طعامٍ فيها، فقد اختلف الأصحاب فيه، فمنهم من ألحقه بالمعاليق، ورد الأمر في مقداره إلى الاقتصاد في العادة.
ومنهم من لم يُثبت حملَ الطعام إلا مبيناً مُقدَّراً؛ فإن التقدير فيه متيسّرٌ غيرُ بعيدٍ عن العادة، فأما وزن القماقم والإداوات، فممَّا لا يُعتاد أصلاً، ويُبنى الأمر فيه على التسامح والتساهل.
فإن قلنا: لابد من ذكر مقدار الطعام المحمول، فهو مما يؤكل في كل محط ومنزل.
5222- فإذا وقع التشاوط على حمل عشرين مَنّاً من الطعام، فقد قال الشافعي: القياسُ أن له إبدال ما يفنى من الزاد.
والتفصيل فيه أن المكتري إن أكل الطعام المحمولَ، فالمذهب أن له أن يأخذ مثل ذلك الطعام، وأبعدَ بعضُ أصحابنا فيما نقله بعضُ المصنفين، فقال: ليس للمكتري أن يحمل طعاماً جديداً، إذا فني ما حمله أولاً؛ فإن المكري إنما يسامح في حمله بناء على أنه يؤكل ويَفْنَى، ثم المكتري يشتري في كل مرحلةٍ قدرَ حاجته.
وهذا وجه مزيّفٌ، لا أعدّه من المذهب. وقد قطع الأئمة بأن الطعام إذا فَني، أخذ المكتري مثلَه.
5223- والمسائل مفروضة فيه. إذا قال المكتري: أحمل عشرين منّاً من الطعام، فهذا اللفظ يشعر باستدامة حمل هذا المقدار، والعادةُ جاريةٌ بين المسافرين، بأن حَشْو السفرة إذا فني أعادوا مثله، وإذا تطابق اللفظ والعرف، فلا وجه لمخالفتهما.
نعم. محلّ تردد الأصحاب ما نصفه.
قالوا: إذا نفذ جميعُ الزاد، فله حملُ مثله، وإن انتقص، فهل له أن يُكمل المقدارَ المذكورَ كلما انتقص، أم ليس له ذلك، حتى ينفد الزاد؟ فعلى قولين: أصحهما- وهو اختيار المزني أنه يزيد كلّما نقص، كما أن الحمولة المقصودة لو نقص شيء منها بسببٍ، فإن المكتري يُكملُها ويردّها إلى المقدار المشروط، فكذلك الزاد المشروط.
والقول الثاني- أنه لا يكمل ما نقص؛ لأن العادة في الزاد أنه لا يشتري منه ما لم يَفْن الأول.
5224- ثم موضع التردد والخلاف فيه إذا كان في المراحل المستقلة زادٌ بأسعارٍ راخية. فإن لم يكن فيها زادٌ، أو كان، ولكن بسعرٍ عالٍ زائد على سعر المنزل، الذي اتفق فيه نقصانُ الزاد، فيجوز الإبدال في هذه المنازل، قولاً واحداً؛ فإن اللفظ في تقدير الزاد مشعرٌ بهذا، والعادةُ مطردة، موافقةٌ، ثم تحقق القحط والغلاء كما ذكرناه، والظن فيه والاستشعار بمثابة التحقق، وهذا معلوم في العادة.
5225- ومن تمام البيان في ذلك أن المسائل التي حكينا النصَّ، وتردُّدَ الأصحاب فيها في إبدال الزاد وجَبْر النقصان مصوّرةٌ فيه إذا ذكر المكتري أنه يحمل خمسين منّاً من الزاد مثلاً، فإن لم يجر للزاد ذكرٌ، والطعام موجود، فالذي عليه التعويل أن المكتري لا يحمل شيئاًً، وليس القول في ذلك كالقول في المعاليق؛ فإن المسافر لا يخلو عن المعاليق، والعادات مضطربة في حمل الطعام، إذا كان موجوداً في المنازل.
وأبعد بعضُ أصحابنا كما قدمنا، فألحق حملَ الطعام بالمعاليق.
فإن فرعنا على هذا الوجه الضعيف، وجوزناً له أن يحمل مقداراً من الطعام، ورجعنا فيه إلى عادة المسافرين، فالظاهر في التفريع على هذا المنتهى أنه إذا نقص شيء من الطعام، لم يجبره؛ فإن المعتمد في المسائل المتقدمة أن المكتري ذكر مقداراً من الزاد، فاقتضى اللفظُ استدامةَ ذلك المقدار، فإذا لم يجر ذكرُ مقدارٍ، ووقع التعويل على العادة المجردة، فالعادة تقتضي أن الطعام لا يزاد كلما نقص.
5226- وذكر بعض الأصحاب وجهاً بعيداً في جواز الزيادة، وهذا على نهاية
الضعف؛ فإنه تفريع ضعيف على أصلٍ ضعيفٍ. نعم، إذا لم يكن بين يدي المسافر طعام في المنازل، أو كان ولكن بسعر زائد، فالعادة تقتضي الاستظهار بالزاد، ويعود الكلام الآن إلى المقدار، وفيه جهالة، فيتصل ترتيب المذهب في هذا المقام بالمعاليق؛ فإنها معتادة محمولة. هذا منتهى البيان في ذلك.
فصل:
قال: "وإن أكراه إلى مكة، فشرط سيراً معلوماً، فهو أصح... إلى آخره.
5227- إذا اكترى دابةً ليركبها، أو يُحمّلها إلى موضعٍ مخصوص، فإن ذكرا قدرَ السير كلَّ يوم، وأبانا أنهما يسيران خمسة فراسخ، أو أقلَّ، أو أكثر على ما يتوافقان عليه، وكانت الدابة تحتمل ذلك، فالشرط متبع.
وإن لم يذكرا مقدار السير، وأطلقا العقدَ، نُظر: فإن لم يكن في الطريق مراحلُ معلومةٌ، كطريق سماوة، وتبوك، فالمذهبُ الصحيح أن العقد يفسد؛ فإن المقصود فيه مجهولٌ، غيرُ متقيّد بلفظٍ، ولا عادة. ومن أصحابنا من صحح الإجارة، وتشوّف إلى ضبط السير بالزمان، مع الاقتصاد في المسير.
فإن كان في الطريق مراحل معلومة، بالمناهل والرباطات، والقُرى، أو بالأميال، والبُردُ والصُّوى، فالعقد صحيح محمول على موجب العادة والكلام في كيفية تسيير الدابة استحثاثاً وتزجيةً، مردودٌ إلى العادة، وهو مضبوطٌ، لا يعدّ من المجاهيل، فإذا تقيّد المسير بالعرف، والمراحل المرتبة في الطريق، فلا مزيد ولا نقصان إلا عن تراضٍ من المكري والمكتري.
5228- ومما يتعلق بما نحن فيه الكلامُ في زمان السير والسُّرَى، فإن بيّناه شرطاً في العقد، اتّبعناه، وإن أعرضا عن ذكر الزمان، وأطلقا العقدَ، فالعادة يُكتفَى بها في ذلك، فنحملها إذا تنازعا في زمان المسير على المعتاد في ذلك الطريق، فإن لم يكن للعادة ضبطٌ في الزمان الذي يقدّر السير فيه، فهذا يجرّ جهالةً مفسدةً؛ من جهة أن المتعاقدَيْن إذا تنازعا، وليس أحدهما بالموافقة بأولى من الثاني، فيؤدي مثلُ هذا إلى قيام الخصومة ناشئةً بينهما، لا نجد لها مفصلاً. وهذا غير مُحتمل.
5229- ولو تنازع المكري والمكتري في محل النزول، فطلب المكري النزولَ في الصحراء بارزاً من القرية وخِطّتها، ورأى صاحب المتاع النزولَ في القرية احتياطاً لمتاعه، وليشتري في القرية ما يبغيه على يُسر، فإذا تنازعا كذلك، حملناهما على العادة، فإن كان وقت أمنٍ، فالعادة النزول في الصحارى، وإن كان وقت خوف، فالعادة النزول في القرى، ومما يؤثر في ذلك الصيفُ والشتاءُ، والعادة هي المتبعة.
وإن اضطربت العادة في محل النزول، ولم نجد منها بيّناً بعَيْنه نتَّبعه، ففي المسألة احتمال، والأظهر أن ذلك يؤثر في الفساد؛ فإنه يجرّ نزاعاً عظيماً بين المكري والمكتري.
5230- ومما يتصل بذلك أن المكتري الراكب قد ينزل بالرواح، ويمشي مقداراً، فإن وقع فيه شرط على المكتري، فقد قال الأصحاب: يلزمه اتباعُ ذلك الشرط، وهذا يعترض فيه إشكال، وهو أنه إذا قُدّر ذلك مستحقاًً، رجع استحقاق الركوب إلى بعض المسافة، وينقطع الأمر فيه، ويقع في تفريع كراء العُقَب، وقد تَفَصَّل ذلك فيما مضى.
وذهب طوائف من أصحابنا إلى احتمال هذا القدر-وإن منعنا كراء العُقَب- بناءً على التساهل، وهذا إنما يحسن إذا لم يكن النزول محتوماً.
هذا إذا جرى شرطُ النزول، فإن لم يَجْرِ، فقد ذكر الأصحابُ وجهين: أقيسهما- أنه لا يلزمه النزول؛ فإنّ لفظَ الاكتراء للركوب يقتضي استدامةَ الركوب، فالتعلق بموجب اللفظ أولى.
والوجه الثاني- أنه يلزمه النزول، ولفظ العقد ينزل على العادة. وهذا مزيّفٌ؛ فإن العادة لا تقضي بإلزام النزول، بل هي جاريةٌ بالتبرع بالنزول، ثم قرّبَ القاضي الوجهين في هذا المقام من القولين في المعاليق؛ فإن تفصيل المذهب فيها دائر على اللفظ والعادة، كما تقدم.
فصل:
قال: "وعليه أن يُركِبَ المرأة، ويُنزلَها عن البعير، والبعيرُ بارك... إلى آخره".
5231- قال الأئمة: إن كانت الإجارة واردةً على العين، فلا يلزم مالك الدابة الإركاب، والإنزال وإناخة البعير، وإنما عليه تسليمُ الدابة المعيّنة.
وإن كان العقدُ وارداً على الذمة، وقد التزم المُكري تبليغَ الراكب المنزلَ المعيّنَ، فالذي ذهب إليه الجمهور أنه يجب على المُكري إعانة الراكب إن كان عاجزاً، فيُركب المرأة، ويرعى حدَّ الشرع، وموجب الدين في إركابها. وكذلك القول في الشيخ الهِمِّ، والمريضِ والصبي، ويجب إناخة البعير لهؤلاء، أما الشاب القوي القادر على أن يركب بنفسه، لا يجب إعانته، ولا يجب إناخة البعير له، إذا قدر على أن يَركب بنفسه، والبعير قائم.
هذا الذي ذكرناه يجب القطع به؛ فإن الإجارة إذا وردت على الذمة؛ فمعتمدها تبليغُ المكري الراكبَ الموضعَ المعيَّنَ، وهذا يتضمن-لا محالة- الإعانةَ عند العجز.
5232- وفصل شرذمة من الأصحاب بين أن يقع التعويلُ في إجارة الذمة على التبليغ، ويجري ذكر الدابة تبعاً، مثل أن يقول: ألزمت ذمتك أن تبلغني الموضعَ المسمّى، على دابةٍ صفتُها كذا وكذا، فإن كان كذلك، وجبت الإعانة، وبين أن يقع التعويل على الدابة، على صيغة الإيقاع في الذمة، مثل أن يقول: ألزمت ذمتك منفعة دابةٍ صفتها كذا وكذا.
وهذا الفصل فقيهٌ لا بأس به. والمشهورُ إيجاب الإعانة في إجارة الذمة كيف فرضت؛ وذلك لأنّ إجارة الذمة لابد فيها من التعرض للدابة، إذا كان المقصود الركوب، فلا يختلف الأمر باختلاف الصيغ.
5233- وذكر بعض المصنفين وجهاً بعيداً في أن الإجارةَ إذا وردت على عين الدابة، وجبت الإعانة فيها على الركوب، وهذا على بعده معتضدٌ بالعادة بعضَ الاعتضاد، وللعادة وقعٌ عظيمٌ في أمثال ذلك.
5234- ومما يتصل بما نحن فيه حملُ الحُمولةِ على الدابة وحطُّها في المنزل. وقد ألحق القياسون ذلك بالإعانة على الركوب. وقد تفصّل المذهب فيه.
وذهب آخرون إلى أن الإعانة على الحطّ والترحال مستحقةٌ لعموم العادة فيها، من غير فرقٍ بين إجارة العين والذمة، بخلاف الإعانة على الركوب؛ فإن التعويل على العادة، وهي مطردة في الحط والترحال، وإن اضطربت في الركوب والإعانة عليه.
5235- ثم قال العراقيون تفريعاً على هذا: رفعُ المَحْمِل، وحطُّه على المكري، وشدُّ أحدِ المحملين إلى الثاني على الرسم في مثله في ابتداء السفر- فيه وجهان:
أحدهما: أنه على المكري؛ فإنه من تمام الترحال، وقد عمت العادةُ به.
والوجه الثاني- أن ذلك على المكتري؛ فإنه بمثابة ضمّ المتاع بعضِه إلى بعض، وتنضيدُ الأمتعةِ في ظروفها على مالك المتاع، فليس على المكري أن يفعل ذلك، وإنما عليه حطُّها ورحْلُها.
فصل:
قال: "وينزل الرجل للصلاة... إلى آخره".
5236- قال الأئمة: كل ما يتهيّأ فعلُه على الدابة، كالأكل والشرب، وإقامة النافلة، فالمكري لا يُنزلُ المكتري لأجله، وكل ما لا يتأتى فعله على الدابة كصلاة الفرض، وقضاء الحاجة، والوضوء، فالمكتري ينزل لأجله، والمكري هل يُعينه؟ فيه التفصيل المقدّم في الإعانة، وتقف الدابة حتى يفرغ. فإذا نزل للصلاة، لم يعجله المكري، والمكتري لا يطوّل ولا يبطىء، بل يصلي على حقّه وتمامه.
هذا منتهى القواعد والأصول، في مضمون الباب، وفيه فصول منتشرة، يحسبها المبتدىء متفاوتة غيرَ داخلةٍ تحت ربطٍ وضبط، وهذا أوان الوفاء بما وعدناه في صدر الفصول.
5237- فنقول: هذه المسائل بما فيها تدور على مقتضى اللفظ، وموجب العرف في إفادة الإعلام، ويتعلق بعضُ أطرافها بتساهلٍ معتادٍ في بعض المقاصد، فأما النظر في مقتضى الألفاظ، فلا يكاد يخفى على الفطن، وأما العادة، فإنها تنقسم إلى ما يطّرد، ولا يستراب في اطراده، وإلى ما يضطرب بعضَ الاضطراب، فأما العادةُ المطَّردة، فنعم المرجعُ هي في أمثال هذه المعاملات، ولها أثران:
أحدهما: تقييدُ اللفظ المطلق. وهذا معلوم من أثر العادة، وبيانُه فيما نحن فيه أن السير إذا أطلق في مسلكٍ فيه مراحل، فليس في اللفظ تقييد في مقدار السير، ولا في كيفيته، ولكن العادة المطردةَ تُنزل المعنى المتردد في اللفظ على وجهٍ واحد، وهذا بمثابة حمل النقود المطلقة في العقود على ما يعمّ في المعاملة جريانُه. فهذا أثر في العادة لا ينكر.
والأثر الثاني- أن العادة إذا اقتضت شيئاًً، وليس في لفظ العقد له ذكرٌ، لا على إجمال، ولا على بيان، فهذا موضعُ نظر الفقهاء، ثم ينقسم، فمنه ما تظهر العادة فيه على اطرادٍ، كالإعانة على وضع الحُمولة ورفعها، في الإجارة الواردة على العين.
ظاهرُ المذهب أن ذلك واجبٌ، وكأن العادة نطقت به.
ومن أصحابنا من لم يوجب ذلك، وقال: أثر العادة في بيان إجمال اللفظ، فأما أن تقتضي شيئاًً لا ذكر له، فلا.
5238- ويلتحق بهذا القسم إيجاب الإتيان بالإكاف، وما في معناه في إجارة العين، وهذا متفق عليه، لاطراد العادة، ولا يعرف خلافُه. وقد يفرض نزاعٌ على الإعانة في الرفع والخفض.
هذا بيان أثر العادة المطردة.
5239- فأما إذا اختلفت العادة، وحصل الوفاق على اختلافها، فلا حكم لها.
فإن كان اللفظ مستقلاً بإفادة المقصود، فعليه التعويل. وقول القائل: عادةٌ مضطربة: كلامٌ مضطرب؛ فإن المضطرب ليس عادة.
ومن أصحابنا من يقول: إذا اختلفت العادة فيما يتعلق بمقصود العقد، فلابد من تقييد لفظ العقد بما يقطع العادة المضطربة.
وقد قدمتُ لهذا نظائرَ في المسائل، وهو كلام ضعيفٌ، مزيفٌ عندي؛ فإن اللفظ إذا كان مستقلاً، فلا مبالاة بما يضطرب من أحوال الناس.
5240- ومما يتعلق بالضوابط في هذا المنتهى أنا قدمنا في صدر الفصول الاكتفاءَ بذكر وزن الحُمولة، وقد يخطر للناظر أن ذلك مجهول؛ فإن الغرض يختلف باختلاف الحُمولات، فالرزينُ منها المكتنز يهُدُّ الأضلاع، ويكُدّ، ويُقرّح، والمنفوش منها كالتبن والقطن، يَغُمّ ويَعُمّ. ولكن لم يعتبر الأصحاب ذلك؛ لأن الضررين يتقاربان ويدنوان من التقابل، وإنما الذي يجب ذكره ما يظهر غرضاً، ولو سكت عنه، لأشكل، ولم يقابله ما يماثله. فأما التعرض لأعيان الأغراض القريبة من التقابل، فبعيدٌ اشتراطه، فليفهم الناظر ذلك.
5241- وما أجريناه من الاكتفاء بالعِيان في الحمولة والشَّيْل باليد، فهو من باب التسامح والتساهل. فإذا انتشر المطلوبُ وكثر، لاقَ به التساهل في بعض الأطراف؛ سيّما إذا اعتضد بالعرف. وعلى هذا الأصل انبنى كثير من الكلام في أوصاف السَّلَم، ولما عظمت الأوصاف في الحيوان، ومست الحاجة إلى السلم، ازداد التسامح في السلم في الحيوان، على حسب كثرة أوصافها، وانتشار الأمر فيها.
5242- وأما مسائل التردد كالمعاليق؛ فإنها مأخوذةٌ من عادةٍ جاريةٍ فيها، مع إبهامٍ ونزاعٍ يُؤلَف في أمثالها، وعُسرٍ في ضبطها، ولا ينبغي أن يظن الفقيه أن اختلاف القول من اختلاف العادة، فإن العادة لو اختلفت، لأسقطناها وعدنا إلى تحكيم اللفظ.
5243- فهذا منتهى الإمكان في ذكر مأخذ الفصول المقدمة، والتطلع إلى ضبطها. وإنما يصعب مُدركُ أمثالها على من لا يستمدّ من بحور الأصول، ولا يغزر حظُّه من مآخذ الشريعة.
فصل:
قال: "وإن اختلفا في الرِّحْلة، رُحِل لا مَكْبوباً، ولا مستلقياً... إلى آخره".
5244- إذا تنازع المكري والمكتري في كيفية رِحْلة المحمِل، فقال المكتري: نُرْحله مكبوباً، وقال المكري: بل نُرحله مستلقياً، فقد اختلف الأئمة في تفسير ذلك، فقيل: المكبوب أن يكون مقدّم المحمل الذي يلي عنقَ البعير منكبّاً، والمستلقي أن يكون مؤخره الذي يلي العجز متسفِّلاً، والمكبوبُ أهون على الراكب، وأشق على البعير.
وقيل: المكبوب أن يكون الجانب الذي يلي جنب البعير في عرض المحمل مُلتصقاً به، ويستعلي ما يلي الصحرا في مقابلة ذلك. وهذا يشق على الراكب.
والمستلقي عكس ذلك.
وعلى الجملة إذا فرض نزاعٌ بينهما، لم يُحمل لا مكبوباً، ولا مستلقياً، ولكن يحمل معتدلاً بينهما.
فصل:
قال: "وإن هرب الجمال... إلى آخره".
5245- إذا هرب الجمّال، فلا يخلو: إما أن يذهب بالجمال أو يدعَها في يد المكتري. فإن ذهب بها، لم تخلُ الإجارة إما أن تكون واردةً على أعيانها، أو تكون واردة على ذمة المكري. فإن كانت واردةً على أعيانها، فلا شك أن الإجارة تنفسخ في المدّة التي تغيّب الجمّال فيها، ولا سبيل إلى الاكتراء عليه؛ فإن المعقود عليه كان متعيَّناً، والعقد إذا ورد على العين، لم يتعدّها إلى غيرها.
فإن كانت الإجارة واردةً على الذمة، فهرب الجمال، فلا نقضي بانفساخ الإجارة، ولكن ما التزمه الجمال دينٌ في ذمته، فيرفع المكتري القصةَ إلى مجلس الحاكم، وإذا ثبت عنده الأمر على حقيقته، ووجد مالاً للمكري، فإنه يكتري عليه من ماله. وإن لم يجد له مالاً، فله أن يستدين عليه إن رأى ذلك.
فإن لم يفعل الحاكم، ولم يتيسر المقصود فللمكتري أن يفسخ الإجارة. هذا إذا هرب بالجمال.
5246- فأما إذا هرب وترك الجمال في يد المكتري، فلا يخفى أن المؤن عليها كانت على مالكها، وكذلك القيام بتعهدها، فإذا هرب، فإن تبرع المكتري بالإنفاق، وبَذْلِ مؤنةِ التعهد، لم يجد مرجعاً.
فإن أبى، ورفع الأمر إلى الحاكم ثَمَّ، يفعلُ الحاكم في تحصيل المؤونة ما وصفناه.
فإن لم يجد الحاكم له مالاً، ولم ير الاستقراضَ عليه، وكان في الجمال فضلٌ عن مقصود المكتري، فله بيع الفاضل من رقابها، وصرفُه إلى نفقة الباقي.
5247- ولو أذن للمكتري في أن يُنفق عليها من مال نفسه، على شرط الرجوع، ففي المسألة قولان:
أحدهما: يجوز ذلك، فإن الضرورة على الجملة قد تُحْوج إليه، والضرورات تغيّر قياس العقود، ثم إذا تمهّد أصلٌ لإمكانِ حاجةٍ، لم يتوقف نفوذُه على تحقق الحاجة في كل صورة. وعلى هذا الأصل جرت الإجارة جملةً وتفصيلاً، والحاجة ظاهرة في الإذن للمكتري؛ فإن الغالب أن الحاكم لا يجد مالاً للهارب، ولا يثق بالرجوع عليه لو استقرض.
والقول الثاني- أن ذلك غيرُ جائز، فإن المكتري لو تعاطى، كان قائماً بتأدية حق نفسه، واستيفائه، وهذا لا سبيل إليه.
فإن قلنا: يجوز للحاكم تفويض الأمر إليه، فلو أنفق، واقتصد، ووجد الجمّال، رجع عليه.
ولو نازعه في المقدار، فقد ذكر صاحب التقريب وجهين:
أحدهما: أن القول قولُ المكري؛ فإن الأصل براءة ذمته، عن المقدار الذي يدّعيه المكتري.
والوجه الثاني- أن القول قول المكتري؛ فإنه إذا كان مأذوناً من جهة الحاكم، فهو مؤتمنٌ من وجهٍ، وإن كان راجعاًً بنفسه لنفسه، فيجب أن يُصدَّق مع يمينه.
والمعنى الذي جوّز تفويضَ الأمر إليه، لا يبعد على مقتضاه تصديقُه في القدر الممكن المقتصد مع يمينه.
5248- ولو استبدّ المكتري، فأنفق بنفسه، مع إمكان مراجعة الحاكم، لم يجد مرجعاً.
وإن لم يجد حاكماً، وأنفق، ففي المسألة الأوجهُ الثلاثة، التي ذكرناها في كتاب المساقاة: أحدها: أنه يرجع للحاجة الماسة.
والثاني: لا يرجع.
والثالث: أنه إن أشهد، رجع. وإن لم يُشهد، لم يرجع.
ولا يرجع ما لم يقصد الرجوع، فلو قصد التبرعَ، لم يرجع، ولو لم يقصد شيئاًً، فلا يرجع أيضاًً، وإنما التردد والاختلاف إذا أنفق على قصد الرجوع.
ولو كان في الموضع حاكم، ولكن عسر عليه إثبات الواقعة في مجلسه، والقاضي لا يتصرف على غير بصيرة، فهذا بمثابة ما لوْ لم يجد الحاكم في التفصيل الذي ذكرناه.
5249- وما ذكره الأصحاب من الفصل بين أن يُشهد، وبين أن لا يُشهد مشهورٌ في المذهب، ولكن لستُ أرى لذلك أثراً في إثبات الرجوع في الأصل؛ فإن الشهود لا يسقطون على حكمٍ غيرِ ثابتٍ، وإنما التفويض والتسليط إلى الولاة.
ولكن هذا يضاهي أصلاً سيأتي في كتاب اللقطة، وهو أنه هل يجب على الملتقط أن يُشهد، إذا تمكن من الإشهاد، فهذا مأخوذٌ من ذلك، وسيأتي مشروحاً، إن شاء الله عز وجل.
5250- ثم قد ذكرنا فيه إذا فوّض الحاكمُ إليه الإنفاقَ أنه لو اختلف المكري والمكتري في المقدار، فالقول قول من؟ والذي يقتضيه القياسُ أنه إذا أنفق بنفسه من غير تفويضٍ، وقلنا: له الرجوع في القدر المتفق عليه، فلو فرض نزاعٌ، فالقولُ قولُ المكري؛ فإنه لم يستند إنفاقُه إلى ائتمان من جهة السلطان. وفيه احتمالٌ؛ من جهة أن الشرعَ سلّطه على الإنفاق، فيجوز أن يكون كتفويض الحاكم إليه، وللحاكم سلطنةٌ في مال الغُيّب على شرط النظر، والمصلحة.
ولو وجد مالاً لغائب، وكان ضائعاً لا يتأتى حفظه إلا بمؤونة، وقد يبلغ مبلغاً، فلو أراد بيع ذلك المال، وإمساك ثمنه للغائب، جاز ذلك، وسنصف هذه الأبواب في أحكام القضاة، إن شاء الله عز وجل.
فرع:
5251- الأجرة إذا كانت مؤجلةً في الإجارة، فحلّت، وقد تغيرت صفةُ النقد، وكان ذُكر مطلقاً في العقد، فلا شك أن الاعتبار في صفة النقد بالنقد الذي كان غالباً يومَ العقد، ولا نظر إلى نقدِ يوم الحلول. وكدلك القولُ في الثمن إذا حل.
5252- فأما إذا ذُكر في الجعالة مقدارٌ من الدراهم، وكانت الدراهم إذ ذاك على صفةٍ، ثم استكمل المجعولُ له العملَ، وقد تغيرت صفة النقد، فقد اختلف أصحابنا فيما حكاه القاضي، فذهب بعضُهم إلى أن الاعتبار باليوم الذي تم العملُ فيه؛ فإنه يوم استحقاق الجُعل. وهذا ضعيفٌ، لا أصل له.
والصحيح أن الاعتبار بالنقد العام، يوم ذُكر؛ فإن العرف العام قرينُ اللفظ، فكأنه وإن أطلق الدراهم قيدها بالصفة العامة حالة الذكر.